لماذا نصدق الخرافات ؟

في صيف ٢٠٠٤ ، يبدأ الموظفين في شركة آبل يومهم في الشغل بإيميل يوصلهم من ستيف جوبس (Steve Jobs). ستيف جوبس هو مؤسس والمدير التنفيذي شركة آبل. يشاركهم فيه خبر إضابته بسرطان البنكرياس. ويؤكد عليهم أنه يحاول التعافي والرجوع للعمل في أقرب فرصة. يتمنى الجميع الشفاء العاجل لهذه الشخصية الملهمة والمؤثرة في العالم.

ستيف جوبس يستطيع شراء أفضل مستشفى في البلد!! ستيف جوبس يستطيع التعامل مع أفضل دكاترة على مستوى العالم!! بل والباحثين العلميين أنفسهم!! يستطيع الحصول  على أفضل ما توصل إليه العلم من تشخيص ومتابعة وعلاج!

ولكن يُفاجأ العالم كله برفض ستيف جوبس لكل مقترحات الأطباء وكل العلاجات الحديثة. ويتوجه إلى علاج مرضه بالأعشاب والوخز بالإبر. ونظام غذائي لشرب العصائر بهدف تطهير الجسم!!

يستمر على هذا النظام لمدة ٩ شهور كاملة حتى تدهورت صحته، ويقرر أخيراً الخضوع لجراحة استئصال الورم وأجزاء من الجهاز الهضمي. وبعد صراع طويل مع المرض يخسر حياته. ويخسر العالم عبقريته وإبداعه.

تضاربت آراء المتخصصين. بعضهم كان يؤكد أن تشخيص ستيف جوبس بالمرض كان مبكراً وبالتالي كان هناك فرصة كبيرة جداً للشفاء والتعافي. والبعض الآخر يقول أننا صعب نتنبأ بمصيره لو كان خضع للعلاج منذ البداية.

لكن الجدل الأكبر في القصة هو لماذا شخص يمتلك كل هذا العلم والذكاء والمال والسلطة وبرغم من كل ذلك يصدق الخرافات والخزعبلات!! لماذا يلجأ للأكاذيب والخرافات؟!! لماذا نحن جميعاً كبشر نقع في فخ الأكاذيب والخرافات ؟

الكثير منّا يصدق أى كلام في أى اتجاه؟!! زر الشير على الفيسبوك والواتساب والماسنجر دليل على ذلك!! شير لأى معلومه دون أن نتحرى الدقة!! لا نفكر في مصدر المعلومة!

هل أدمغتنا تدفعنا تلقائياً لتصديق الأمور المُريبة والغريبة ؟!

الكثير من المثقفين وفلاسفة العلوم في القرن التاسع عشر كانوا يعتقدون أن رفع مستوى التعليم والتوعية بالمنهج العلمي في التفكير سيؤدي في النهاية إلى التخلص من الخرافات ولن يتبقى إلا العلم. لكن الغريب أنه رغم إرتفاع مستوى التعليم على مستوى العالم ككل، الخرافات استمرت وتنتعش في بعض الأوقات!!!

رغم كل هذا العلم والتقدم في أساليب التفكير العلمية، إلا أن ٧٥٪ من عدد المواطنين الأمريكيين يعتقدون في خرافة واحدة على الأقل مثل الأشباح والبيوت المسكونة والأبراج والأطباق الطائرة. والكثير من الخرافات مثل التخلص من السموم بالديتوكس، واللاصقة السحرية العجيبة!! وعلاج الحالات النفسية بأساور وسلاسل الطاقة!! وعلاج السرطان ببذر المشمش المطحون!!!

في الشهور القليلة السابقة، تجد الكثير منا ينشر معلومات غير علمية عن جائحة كورونا. رغم أننا في أمس الحاجة إلى معلومة علمية دقيقة من مصدر موثوق، إلا أن المنتشر هو نظريات المؤامرة وتصنيع الفيروس في المعمل وعلاقته بتكنولوجيا الجيل الخامس ونصائح قتل الفيروس بالشاي السخن وغيرها من الأوهام والأكاذيب والخزعبلات التي انتشرت على الإنترنت خلال الشهور الأولي لوباء كورونا.

ستيف جوبس كان لديه رفاهية الحصول على العلم والمعلومات الدقيقة، ولكن الكثير منّا لا يرى الفرق بين العلم والخرافة بوضوح لأسباب كثيرة. من أهم الأسباب هو أن الدجالين والمشعوزين ومروجي الخرافات يعرفون كيف يتحدثون بلباقة وجذابين الشكل ولهم حضور عالي في الكتب والتليفزيون، وبعضهم يحمل ألقاب مثل أستاذ أو دكتور.

في حالات كثيرة مثل ستيف جوبس، عندما يجد المريض أن الطب لا يقدم له علاج تام، يلجأ المريض إلى الخرافات والشعوذة للعلاج! والعلاجات البديلة!

العلاجات الدقيقة عليها آلاف المؤسسات التي تراقب على دقتها وصحتها، لكن نادراً أن تجد أى نوع من الرقابة على شخص غير متخصص. لذلك من السهل أن يقوم المشعوذين بالترويج وبيع الخرافات والمنتجات الغير مفيدة للناس!!! بيع الوهم للناس!!!

نحن كبشر تصلنا المعلومة بعد مرورها بالكثير من المشاعر والتحيز والضغوطات. وتصديق الرأي العام والمحاولة للإندماج في المجتمع.

أجدادنا كانوا يحتاجون إلى اتخاذ قرارات سريعة بغض النظر عن دقتها. مثلاً: إن كان هناك شكل غريب في الغابة، احتمال يكون أسد. القرار الأفضل هو القرار الأسرع أن هذا هو أسد لذلك عليك أن تسرع في الجري للنجاة بنفسك والاختباء بعيداً عنه. رغم أن هذا الظل يمكن أن يكون مجرد كومه من القش أو شجرة صغيرة وسط أشجار طويلة! ولكن الحل الأفضل كان التصديق في الخرافة للنجاة بنفسك بدلاً من محاولة التحقق من المعلومة وتدمير نفسك إن كان أسد فعلاً.

هذا الأسلوب في التفكير متعمق في أدمغتنا. لذلك تجد الخرافات تنتشر بكثرة في وقت الكوارث والأمراض المعقدة والجديدة والمستعصية. نحن نصدق الشيء الأغرب بهدف النجاة من المهالك. ولكننا اليوم في عصر التفكير العلمي والتقنيات الحديثة. إلا أن تفكيرنا لا زال تفكير الكهف والغابة.

الوصول إلى معلومة سريعة واتخاذ قرار الفرار من المخاطر كان أصلح للبقاء. هذا الأسلوب يوفر طاقة أدمغتنا، ووقتنا المحدود للهروب من المخاطر.

ما المشكلة ؟ دع كل شخص يعتقد كما يشاء ! ما الضرر في الخرافات والشعوذة ؟!

أنظر بشكل أعمق للأمر. في الدول متوسطة الدخل تُقدّر قيمة العلاجات الخرافية والغير فعالة بـ ٣٠ مليار دولار. كل هذه الأموال دفعها مرضى بغرض تخفيف آلامهم بأى ثمن. بالإضافة إلى الأذى النفسي الذي يسببه المشعوذين الذين يوعدوهم بالشفاء الذي لا يتحقق!!!

وطاقات ووقت ومجهود العلماء والتجارب والأبحاث في إثبات خطأ الادعاءات والتخريف. واستبدال المعلومات الخاطئة بمعلومات صحيحة. وحالياً في مواجهة جائحة كورونا، المعلومات المغلوطة تعرض حياتك للخطر.

زوجين أمريكيين خسروا حياتهم بعد ما بلعوا كميات كبيرة من المواد الكيميائية البيطرية، بعد أن سمعوا التقارير الرئاسية تقول أن مادة الكلوروكين تقضي على المرض!!!

ثلاثين مريض فرنسي أصيبوا بمشاكل في القلب بعد تعاطي أدوية تحتوي على مادة الكلوروكين بعد تصريحات متهورة في الصحافة الفرنسية.

بعد تصريحات ترامب - الرئيس الأمريكي - عن حقن المرضى بالمنظفات والكلور بغرض قتل الفيروس. حالتين من الناس صدقوا كلام ترامب وشربوا كميات كبيرة من المنظفات خوفاً من الإصابة بالمرض. لحقهم الأطباء في المستشفى وهم الآن بصحة جيدة.

البعض صدق نظريات المؤامرة والشك في الطب الحديث حتى أن بعض الناس كذبوا وجود وباء كورونا وأهملوا في وقاية أنفسهم ودفعوا الثمن من صحتهم وحياتهم.

كل إنسان حر فيما يصدق ويعتقد. لكن بعض أن يصله حقه الكامل في المعلومات الصحيحة. نحن علينا واجب كبير في نقل المعلومات. عندما تعرض أمامك قصة تبدو علمية. خذ وقت للتأكد من صحتها ودقتها قبل الإسراع في نشرها والحديث عنها.

إسأل عن دليل المعلومة! وهل خضعت للتجربة؟ من صاحب الإدعاء أو المعلومة ؟ ما هو علمه ؟ وهل هو متخصص في هذا المجال أم لا ؟ ما مدى مصداقيته ؟ وما هي مصلحته من ترويج هذه المعلومات ؟ راجع جميع الناس وتأكد من مصادر المعلومات هل هي علمية ودقيقة أم أنها خرافات وأكاذيب.